أمراء الشعر من أحمد شوقي الى شربل بعيني مروراً برشيد نخلة وغيره

   يعود تاريخ الأدب العربي الى أكثر من ألفي عام، وهذا أطول تاريخ أدبي لم تتغيّر معالمه ولغته خلال عشرين قرناً، واستمر الطلاب والأدباء عبر العصور يدرسون الشنفري وطرفة كما يدرسون الجاحظ وأبي تمام وطه حسين وجبران وأنسي الحاج.
   ولم يعرف الأدب العربي في تاريخه المعارك والصراعات حول تزعم الشعر والأدب، بل كانت هناك معارك الجفاء والهجاء التي مثل قمتها الفرزدق وجرير.
   ولكن المعارك "الزعامية" اشتعلت في القرن العشرين عندما أجمع عدد من الشعراء البارزين في مصر والعالم العربي على مبايعة أحمد شوقي إمارة الشعر.
   لا شك أن شوقي هو أحد كبار الشعراء العرب قديماً وحديثاً، ومن القمم الشعرية الثابتة، ولكن لقب الامارة لم يعطه أهمية إضافية، ولم يزد على شعره شيئاً، وقد تسببت إمارة الشعر لأحمد شوقي بمعارك جانبية من قبل شعراء وأدباء كبار داخل مصر وخارجها، كما سبب لقب "عميد الأدب العربي" الذي أعطي لطه حسين مشاكل مشابهة.
   وقد اطلع أحمد شوقي ذات يوم على بعض قصائد شاعر شاب في العشرينات من عمره يدعى أمين نخله، وقرأ له قصيدة مطلعها:
أحبك في القنوط وفي التمني
كأني صرت منك وصرت مني
   فأعجب بشعره، وعندما علم أنه نجل الشاعر رشيد نخله واضع النشيد الوطني اللبناني، الذي كان يحمل لقب "أمير الزجل" قرر شوقي أن يختار أمين نخله خليفة له، فكتب أبيات هذا مطلعها:
هذا ولي لعهدي
وقيّم الشعر بعدي
وكل من قال شعراً
في الناس عبد لعبدي
   وحمل أمين نخله لقب خليفة أمير الشعراء، وثبّت الأبيات التي نظمها شوقي في صدر ديوانه "دفتر الغزل" مما عرّضه للانتقادات والسخرية أحياناًً.
   ولكن أمين نخله لم يدّعِ بعد وفاة شوقي عام 1932 انه امير الشعر، ولم يستعمل اللقب اطلاقاً، بل كتب وقال ان ما نظمه شوقي كان عاطفة وتقديراً وليس رتبة، إذ من المستغرب أن يقدم شوقي على تعيين خليفة له بعد أن كان حصل على ذلك اللقب بالمبايعة.
   عند هذا الحد طويت قضية إمارة الشعر، ورفض الأخطل الصغير مبايعته لقب "أمير الشعراء" عام 1964، مكتفياً بتقبّل حفل تكريمي قال فيه عمر أبو ريشة:
أيقولون أخطل وصغير
أنت في دولة الشعر أمير
   وكانت هذه القصيدة أعدت لمبايعة الأخطل إمارة الشعر، ولكنه رفض ذلك، وبقيت "الإمارة" في القصيدة فقط.
   ومن إمارة الشعر الفصيح ننتقل الى امارة الزجل اللبناني، أي الشعر الذي يكتب بالعامية اللبنانية.
   بعد أن نهض الشاعر رشيد نخله بالشعر الزجلي، وجدد به ورفع مستواه من قول في مناسبات الحزن والفرح الى قصائد رائعة تداولتها الطبقة المثقفة والراقية اجتماعياً، والتي انتمى اليها رشيد بك، قرر الشعراء الزجليون بشكل إجماعي مبايعة رشيد نخلة إمارة الزجل، وكانوا تأثروا بـ "إمارة" شوقي، التي سبقت مبادرتهم بعدة سنوات.
   لم يعارض أي من شعراء الزجل مبايعة رشيد بك، بل أجمعوا عليه، وبما أن شوقي كان اختار أمين نخلة ـ نجل رشيد ـ ولياً للعهد ليكون أميراً للشعر بعده، أقدم رشيد نخلة على اختيار أسعد الخوري الفغالي الذي عرف بلقب شحرور الوادي خليفة له وولياً لعهده.
   ولكن الموت داهم شحرور الوادي وهو في السابعة والثلاثين، وقبل وفاة رشيد نخلة بعام واحد، فرحل نخلة وولاية العهد شاغرة.
   ودارت معركة حامية حول إمارة الزجل، فاختار عدد من الشعراء الشاعر وليم صعب أميراً، واختار آخرون رامز البستاني، واستمر الجدل لعدة سنوات طويت بعدها معركة "الإمارة" حين برز شعراء كبار مثل أسعد السبعلي، أسعد سابا، خليل روكز، وغابي حداد، وإيليا أبو شديد وغيره، تحول لقب الامارة الى "مزحة" بعد أن أصبح الانتاج الشعري هو الحكم والميزان، وبعد أن بدأ كتاب النقد الأدبي يتناولون الزجل الذي تطور الى مدرسة شعرية راقية.
   ومنذ نصف قرن طويت صفحة الجدل حول إمارات الشعر والأدب، ولم يعد يكثرث بهذا الموضوع أي ناقد أو مفكر لأن مستوى الانتاج والابداع هو الحكم وحمل اللقب لا يعني شيئاً.
   وقد عادت الأحاديث حول إمارة الشعر مؤخراً بعد أن بدأ الصحافي المخضرم العتيق جوزيف الحايك، الذي يتفرّد برئاسة أحد فروع الجامعة الثقافية اللبنانية في الولايات المتحدة، يمنح ألقاباً تقديرية سنوية، بدأها العام الماضي باختيار الفنان إيلي عاقوري شخصية العام في عالم الانتشار اللبناني، مع عبارات التقريظ والتبجيل، التي لم تؤذِ أحداً، ولم تثر أي جدل في أوساطنا، كما أنها لم ترفع إيلي عاقوري ولم تقلل من أهميته الفنية.
   وهذا العام اختار الكاتب العتيق في صحيفة "الهدى" الزميل جوزيف الحايك صديقنا شربل بعيني "أمير الأدباء اللبنانيين في عالم الانتشار".
   لا نعتقد أن هذا اللقب سيؤثر على شربل بعيني سلباً أو إيجاباً، بل سيبقى شربل كما هو بعطائه ومستوى إنتاجه. ويمكننا أن نوافقه القول على أن مبادرة الاستاذ الحايك هي عاطفة وتقدير للذين يحافظون على التراث اللبناني في عالم الانتشار، والمعروف عن الحايك انه لبناني عتيق متمسك بلبنانيته الى حدود التعصب.
   وليعذرنا الاخوة الذين أرسلوا إلينا بعض التعليقات الساخرة والجديّة، ان نعتذر لهم عن عدم نشرها لأن مبادرة كهذه تبقى في حجمها، وليس من الضروري أن نعتبر أن شربل بعيني أصبح أميراً وصاحب دولة، وبقية الشعراء أقل منه شأناً وأهمية.
   والجدل القائم حول لقب إمارة الشعر حالياً ليس بجديد في عالم الاغتراب اللبناني، فقد سعى الشاعر جوزيف الهاشم الملقب بزغلول الدامور في منتصف الخمسينات الى منح شاعر مهجري في البرازيل يدعى رامز لطف الله لقب أمير الزجل في البرازيل، وقد ثار لغط واسع حول تلك الحادثة لأن لطف الله كان قليل الانتاج ومن المستوى التقليدي جداً.
   وفي مطلع العام 1967 قام زغلول الدامور بجولة في أستراليا، وسعى مع شعراء آخرين الى مبايعة الشاعر الراحل يعقوب عبيد امارة الزجل في أستراليا بإجماع تام بين الشعراء المحليين آنذاك دون إثارة أي جدل لأن يعقوب عبيد كان طليعة الشعراء وأبرزهم.
   وبعد وفاة الأمير عام 1977، فشلت محاولات الاجماع على شخص آخر وطوي هذا الموضوع منذ سنوات.
   كان شيخ النقّاد مارون عبود يقول بأن أي شاعر مهما بلغت عظمته لا يقدر أن بلغي أصغر شاعر، حيث لكل شاعر وأديب حجمه وموهبته وعطاءاته ومجالات ابداعه.
   إننا في مجتمعاتنا العربية وفي تقاليدنا الاجتماعية والادبية والسياسية نعشق ونمارس منح الألقاب، فعلى سبيل المثال النائب هو "بيك"، وكل من لبس ربطة عنق هو "أستاذ"، وكل من كتب كلمة أو صفّ قصيدة هو عبقري وشاعر كبير، وكل سخي وفاعل خير هو ملك، وكل صاحب صوت هو أمير الطرب، وكل متغلب على الفشل هو مفخرة في دنيا الاغتراب، وكل أمي وجاهل يملك وجهاً جميلاً ويمتلك طموحاً ومالاً يتحول الى شيخ شباب الحفلات والمناسبات وسلطان الطاولات.
   أضف إلى كل هذا أن مؤسساتنا وجمعياتنا تهوى التكريم ومنح الألقاب، وتأتي هذه البوادر جيدة حيناً وفارغة أحياناً ومجاملاتية غالباً.
   ولكن هل غيرت هذه الممارسات من الحقائق الراهنة؟
   لا أعتقد ذلك!
   الحقائق ثابتة لا تتغيّر، وإذا رأى البعض الحقيقة بغير واقعها فالحقيقة باقية ولن تتغيّر.
   لذلك لا خوف على شربل من الجائزة، لأنه لن يستعمل اللقب الجديد عندما يوقّع الرسائل، وكذلك لا خوف على الشعراء والأدباء الآخرين، لأن كل واحد منهم باقٍ في مكانته وله حجمه ووزنه، وأصداء انتاجه باقية كما هي وكما تستحق.
   كل شيء في مكانه أيها الأحباء، لا تخافوا وابقوا الحوار أدبياً منطلقاته الحب والفكاهة والبساطة.
الشرق، العدد 85، 29/11/2000
**