جولة سريعة في شعر شربل بعيني

   لم يسمح لي الوقت للقيام بجولة شاملة على كل ما كتب الشاعر شربل بعيني، إن كان في الصحف أو ما نشره في كتب، ولذلك من غير الممكن إجراء جولة نقدية شاملة لانتاج شاعرنا.
   ولكني سأحاول في هذه الأمسية الممتعة أن ألقي نظرة، وأقدم رأياً بإنتاج هذا الشاعر الشاب، صاحب القلم الدفـّاق، المتواصل العطاء.
   يعيش شربل بعيني شاعراً، عمله الشعر، حرفته الكلمة، هوايته إصدار أو تفقيس الكتب، ودغدغة الأوراق على المكتب، أو في الحديقة، أو في السرير.
   لقد أصبح شربل بعيني ظاهرة مميزة في مغتربنا بتعدد دواوينه في جالية كانت حتى الأمس القريب قاحلة أدبياً وفكرياً.
   في البداية كنت أظن أن شربل بعيني شاعر عددي بين مجموعة كبيرة من ناظمي الشعر الشعبي، الذي نعرفه باسم الزجل اللبناني، ومع مر السنين، ومواكبة انتاجه، تعرّفنا عليه وعلى دنياه الشعرية الواسعة، الشفـّافة، الضاحكة أحياناً والواجمة الجامدة أحياناً أخرى.
   وتعرّفنا الى شربل بعيني شاعراً بلغتنا الفصحى، وقرأنا له مما قرأنا قصيدة "بهيسة"، وقصيدة "كيف أينعت السنابل؟" ووجدنا عنده الاصالة الشعرية ونبرة التجديد. ولا أخفي اني افضل اللغة الفصحى على العامية، ولكن الزجل تراث دخل صميم الناس، وصور حياتهم، وعزف على أحاسيسهم وعواطفهم، ولم نعد نخشى في هذه المرحلة على لغتنا الفصحى الجميلة، أو على قواعدها من أن تلتهمها اللغة العامية، بعد أن فشلت محاولات متعددة، وبرهن الانسان العربي حرصه على لغته، كما أكد تعلقه وحبّه للشعر الشعبي أو الزجل.
   وسأركّز في كلمتي هذه على اللون الزجلي عند شربل بعيني، تاركاً شعره الفصيح ونثره لغيري أو لمناسبة أخرى.
   كما قلنا سابقاً، يعيش شربل بعيني في صومعة شعرية، وجو شعري يرافقه أينما حلّ وتوجّه. القصيدة عنده تولد يومياً، والكلمة ترى النور بين أصابعه كل دقيقة. انتاجه لا ينضب، وقريحته لا تتعثّر.
  ومن يطلع على قصائده، ويدقّق بتركيباتها وصيغتها، وبالمشاعر التي تثيرها، يشعر بأن هذه القصائد متفاوتة بولاداتها، متفاوتة بأصدائها ونكهتها، الى درجة تشعر فيها احياناً بأن الشاعر كتب قصيدة وكان في حالة انسلاخ عن شاعريته، وأحاسيسه، وكل شاعر، أو الأكثرية الساحقة من الشعراء تعمد أحياناً الى تركيب قصيدة، أو قصائد، بعيداً عن الشاعرية، وربما يمكننا أن نسمي هذه الحالة حالة مكانيكية الكلمة، وليس الكلمة الشعرية.
   وقلّما عرفنا شاعراً قديماً أو حديثاً إلا وتعرّفنا عنده على قصائد مركبّة ومطرزة ومزخرفة، وخاصة في أشعارنا العمودية ذات النبرة الموسيقية المثيرة.
   بدأت رحلة شربل بعيني مع الزجل في ديوان "مراهقة" عام 1968، وأعتقد أنه كان دون العشرين من العمر، وربما في سنّ المراهقة.
   لا يخرج ديوان "مراهقة" عن أجواء شاعر مراهق تربّى على ورود وأوتار "قالت لي السمراء" للشاعر نزار قبّاني، ويتنقل شربل من محطة الى أخرى في سيرة تجربته الشعرية حيث يصل الى ديوان "الغربة الطويلة" بعد 17 عاماً من صدور ديوان "مراهقة".
   في "الغربة الطويلة" يولد شاعر جديد بنغمته وامتداد آفاقه، متجاوزاً ديوان "مجانين" ، مبتعداً حتى عن الصيغة التركيبية السابقة.
   ان قصائد "الغربة الطويلة" تختلف عن سائر الدواوين والقصائد، حيث تشعر ان الشاعر بدأ بدخول تجارب الحياة، وهموم الغربة، ورحلات الآلام. لا نجد أية مراهقة في "الغربة الطويلة".
   ولكني أرى أن ديوان "مراهقة" هو أفضل دواوين الشاعر بلغته الزجلية البسيطة، وبأوزانه المحافظة على العمود التقليدي. اني لا أرى، ولا أعرف شاعراً زجلياً كبيراً قدر أن يكون خارج أوزان الزجل التقليدية، واستعمال اللغة المفهومة من قبل الأكثرية، أي خارج نطاق مدرسة سعيد عقل وموريس عواد الزجلية التي لا نفهمها.
   ربما تأثّر شاعرنا بهذه المدرسة بعد ديوان "مراهقة"، ولكنه تطوّر بالانتاج الشعري، والنضج الحياتي، فمن رقص "الجيرك" الى "الغربة طويلة"، و"رجال القوافل" الذين:
زرعوا المواسم والمواسم خير
ونصبوا خيامن بوطن تاني
زعل الندي وانبح صوت الطير
وتكيت غصون الحور دبلانه
الى قصيدة "الشهيد":
لولا الشهيد ما انسقيت أراضي
ولا الزرع فرّخ بين ايدينا
   الى جنوب لبنان، ومعايشة آلامه، وبطولات أبنائه:
لَوْ كَان الشِّعر بْواريدْ
كِنت بْشِعْري سِلَّحْتَكْ
وِرْسَمْتِلَّكْ مَلْيُونْ إِيدْ
تَا تْدَافِعْ عَنْ مَصْلِحْتَكْ
......
بَدِّي عَ أَرْضَكْ يْمُوتْ
الْغَازِي الْـ بَعْدُو مُحْتَلاَّ
وْإِعْمِلُّو بْإِيدي تَابُوتْ
مِنْ لَعْنَاتْ وْلاد زْغَارْ
شبْعُوا حْرُوبْ وْدَم وْنَارْ
وِاشْتَاقُوا لْرَحْمِةْ أَللـه..
   إني أراها مرحلة تحوّل بارزة، لكنها لا تكفي، ولا تشفي غليل عشّاق الشعر والادب في هذه المرحلة المميزة بالآلام والقساوة، والتراجع، ونحن نرى شعر شربل بعيني مقصّراً بمشاركته بآلام شعبه وتصوير مآسيه.
   ويقول شاعرنا انه يكره السياسة والتسييس، الى درجة انه يتجنب قراءة الأخبار والاحداث، ولا يهتم بها، وهذا حقّه. ولكننا نريد منه خوض معارك الحياة، ومرافقة التطورات والتحولات، فمثلاً لولا قراءة شربل لذلك الخبر في صحيفة لبنانية عن الجندي خالد كحّول، لما كان طلع علينا بتلك القصيدة في ديوان "مجانين".
   اننا نريد ان نخوض عالم القنّاص المحترف شعرياً، وعالم رجال العصابات والميليشيات، وعالم الذين يفخّخون السيارات، ويشاهدون دماء ولحوم الابرياء تتطاير، عالم الذين غير قادرين على شراء كيلو اللحم بـ 200 ليرة.
لقد حاول شربل أن يخوض في هذا المجال، ولكنه لم يحقّق نجاحاً كبيراً. لنسمعه في قصيدة "المغول" من ديوان "مجانين" حيث يحاول أن يروي لنا حكاية مجموعة مجرمين اغتصبوا فتاة ثم قتلوها. وهذا هو نص القصيدة بأكملها: 
بَسّْ.. بَسّْ..
هَيْدَا كذْب.. مُشْ مَعْقُولْ
بِنْتْ قَتْلُوهَا وْصَارُوا
يِتْبَادْلُوا عْلَيْهَا الْمَغُولْ
شُو ذَنْبَا.. يَا سَامِعْ قُولْ؟!!
شُو ذَنْبَا.. يَا سَامِعْ قُولْ؟!!
رُوحَا عِنْد الْخَالِقْ فَوْقْ
وِاللِّي مَا فِي عِنْدُنْ ذَوْقْ
شِي بِالعُرْض.. وْشِي بِالطُّولْ
وْشِي مِنْ تَحْت.. وْشِي مِنْ فَوْقْ
وْشِي.. يَا أَللَّـه كْفَرْنَا بَسّْ
رِجْعُوا قَصُّوهَا بِالنِّصّْ!!!
   انتهت القصيدة. إني أشعر أن هذه ليست قصيدة بل برقية أو بطاقة استنكار ضد هذا العمل الوحشي.
   هناك قصيدة اسمها "مجانين" في الديوان الذي يحمل نفس الاسم، وكان يجب أن تكون هذه القصيدة من خيرة قصائد الديوان الذي حمل اسمها. ولكنها جاءت سرداً كلامياً مملاً تعوزه الشاعرية والحس المرهف. لنقرأ هذا المقطع من قصيدة مجانين:
تَا نِرْجَعْ مُدِّه لْوَرَا
وْنِحْكِي بِاللِّي كَانْ يْصِيرْ
عَ إِيَّامْ عَبْدِ النَّاصِرْ
زَعِيمْ الشَّعْب الِكْبِيرْ
كَانْ مِنْتِصر وْثَائِرْ
فَافْتَكَرْ إِنُّو قَدِيرْ
يْزَوِّجْ وِيْطَلِّقْ بُلْدَانْ
مِتل الرِّجَّالْ وِالْمَرَا
وْحَبّ يْجَرِّب بْلُبْنَانْ
وْيِقْدُفْ بِإِجْرُو الْكُرَه
وْبَعد مُدِّه مْنِ الزَّمَانْ
اعْتَرَفْ بِأَنُّو لُبْنَانْ
كِلُّو أَحْزَاب وْأَدْيَانْ
مِتِلْ عَرْنُوس الدَّرَه!!
وفي مكان آخر:
"بِـ بَلَدْ إِسْمُو لُبْنَانْ
عَمْ بِيصِيرْ إِجْرَام كْتِيرْ
جِهَّه قَتْلُوا إِبْنِ فْلاَنْ
وِالظَّاهِرْ زَعِيم كْبِيرْ
رِجْعُوا تَانِي جِهَّه كْمَانْ
رَبْطُوا وْلَقْطُوا طفل زْغِيرْ
وْعَ كَعبْ أَحْلَى أَرْزِه
دَبْحُوهْ مِتْلِ الْعَنْزِه!!!"
   هذا سرد قصصي ممل، أكثر منه شعر. اننا نريد البناء الشعري الذي قرأنا في "مراهقة" أن يسبك بروح جديدة، وعبارات مموسقة، لأن وقع الكلمة يؤثّر على النفس، ويدخل القلب حتى اذا خلت الكلمة من الشعر أحياناً.
   ان الشاعر شربل بعيني قادر على اعطاء القصائد المتكاملة الناضجة ببنائها وروحها ورموزها، ولا تعوزه الشجاعة والمعرفة أو الانفتاح.
   يجب أن لا ننكر أن الشاعر خاض جميع المجالات، وتسرّب الى حقل الزارع، وزريبة الراعي، وقصر الظالم، وبرج المسرف، ولكننا نريد القصيدة المتكاملة التي أشرنا اليها.
   لقد قلنا هذا الكلام، وقرأنا هذه المقاطع غير الشعرية برأينا، لأننا نطمح ان يصدر عن شربل شعراً يصوّر آلام المواطنين، عذاب الكادحين، مشاعر المهجرين، دون أن ينغمس بالسياسة التي لا نلومه اذا ابتعد عنها. ونحن على ثقة بقدرة الشاعر وطاقاته لبلوغ مرحلة جديدة.
   وفي النهاية.. أشكر رابطة احياء التراث العربي، ورئيسها الزميل الاستاذ كامل المر على هذه الفرصة، كما أشكر الشاعر على رحابة صدره. وشكراً لاصغائكم.
صوت المغترب، العدد 907، 16/10/1986
**