ورقة غزل

   ان اسعد أوقات الكتّاب الصحفيين هي عندما يتلقّون التعليقات على ما يكتبون من القراء.  وربما تكون زاوية "كي لا ننسى" من الزوايا التي اقامت علاقات حميمة بين عدد كبير من القراء وهذه الصحيفة.
   تأتي التعليقات متلاحقة، ومختلفة، منذ سنوات، ولكن أحد التعليقات حمله صوت ناعم عبر الهاتف، هزّ المشاعر، واضطرني ان ألقي نظرة شاملة على حياتي العاطفية والوجدانية.
    قال الصوت الناعم ان الزاوية التي تطل على القارىء منذ سنوات لم تحمل يوماً الى القارىء سطراً واحداً يحمل العاطفة للحبيب او للحبيبة، أو يعبّر عن الهيام بجمال المرأة، التي كانت وما زالت ملهمة الشعراء والادباء عبر التاريخ.
   وأضاف الصوت الناعم يقول: لقد قرأت مؤخراً تحليلاً لناقد عربي يقول فيه إن جميع أدباء وشعراء المهجر لم يكتبوا عن المرأة والغزل باستثناء جبران خليل جبران.
   انتهت المكالمة، وجلست أفكر بما قاله الصوت الناعم، وفيه الكثير من الواقع، وتخيلت الفجوة الشاسعة التي تفصل كامل المر عن كتابة الغزل والتغزل بالقد الفارع والعيون الحالمة، وكيف ان شربل بعيني ابتعد رويداً عن شعر المرأة الاباحي منه والمحتشم منذ هجرته.
   هل الهجرة تجفف العاطفة، وتغرق صاحبها بالعالم الصناعي التجاري الجديد؟ أم انها تؤجج هذه العاطفة وتشعلها، فيتحوّل الكاتب ـ المهاجر الى امور أكثر أهمية من الغزل والهيام والبكاء على فراق الحبيب؟
   نحن مع الرأي الثاني القائل بأن المهاجر يصبح أكثر عاطفة، وأكثر جديّة، ويتجّه نحو قضايا أكثر أهمية من الغزل، ولاسيما عندما تفتح أمامه الهجرة آفاقاً جديدة يرى من خلالها تخلّف مجتمعه، والأمراض التي يعاني منها أهله في وطنه الأم.
   فيا أيها الصوت الناعم..
   اننا نرفض وجهة نظرك، ونعتبرها تحدياً للرجولة وللعاطفة التي تدفقت عبر الهاتف بسبب نعومة الصوت، وقد تكون صاحبته غير ناعمة، وأؤكد لك ان الاحتراق كان يهدد أسلاك الهاتف لو أعطينا القلب مداه في الاسترسال العاطفي وعبارات الغزل.
   فمع كل رفـّة جناح، وزقزقة عصفور، واخضرار حديقة على ضفاف بحيرة، يخفق القلب لوجه جميل، وثغر طموح، وتتدفق كلمات الشعر تبحث عن الحبيبة، وتنثر على هامها أزهار اللوز، ولمسات الهيام، وتضمها ضم الغريق للشراع في بحر بعيد.
   وعند ابتعاد الحبيبة وتنائيها، تضيق البحار، وتصغر الأجواء، وتتحوّل فاكهة الموسم، وأثمارها الشهية، الى نكهة لا تضاهي شفاه الحبيبة، ويعجز دفء الشمس عن مجاراة لمسات حنانها، وتتحوّل الموسيقى الكلاسيكية الى نشاز اذا ما قورنت بصوت الحبيبة البعيدة، ونداءات صوتها العذب.
   وبعد هذا يا صاحبة الصوت الناعم، والوجه المجهول، هل تتجرئين على اتهامنا بجفاف العاطفة، وتتهمين الذين حملوا نزار قبّاني، وعلّقوا أشعاره على كل جدار معبد أو منزل أو صحيفة بالعجز عن التغزل بالمرأة والجمال؟
   سامحك الله، وأبقى صوتك ناعماً ووجهك مجهولاً، لئلا نصدم اذا سعدنا يوماً بالطلعة البهية.
النهار، العدد 522، 15/1/1987
**