عنداري ـ بعيني: العين المزدوجة/ فؤاد نعمان الخوري


 أعترف أنني أحترم النقد، ولست بناقد، وأتذوّق المنهجية الأكاديمية، ولا أدعيها، فأنا مزاجي، انطوائي واجتماعي في آن، وللنقد أصول موضوعية ومدارس واتجاهات. ولقد "خربتني" المطالعة، وأنا طاحون كتب وجرائد، فأراني أحياناً متأرجحاً بين نزعتين: فطرية أصلية، ونقدية مكتسبة، وهنا السؤال: بأية عين أتطلّع الى كتاب كي لا ننسى؟ (1)
   في هذا الكتاب، الشاعر شربل بعيني، طاحون النشر في أوستراليا، يختار بعض مقالات للصحفي بطرس عنداري، ويقدّم لها، ويضمّها بين دفـّتين، وبين بعيني والعنداري، حرف "العين" مزدوج، ولعل نظرة "العين" مزدوجة أيضاً. فماذا يرى "أبو زياد" حتى يكتب؟ ولماذا تحمّس "أبو الهمّات" لكتابات "أبو زياد"؟.
أولا العين الواحدة:
   العين مرآة النفس، وانعكاس العالم في النفس، في وقت واحد. انها طريق معرفة باتجاهين: داخلي وخارجي. ومع أنها أداة للذهن، فقد تنزلق أحياناً الى شهوة القيادة، وتورط صاحبها، حتى قال فيها الكتاب المقدّس: "اذا شككتك عينك اقلعها.."، وقد تعود المسكينة الى وظيفتها الأصلية "كاميرا" من لحم ودم، لكنها غالية كثيراً، وإلا، فكيف تنادي حبيبتك "يا عيني"؟.
   وعين بطرس العنداري ثاقبة ومنقبة، محبّة ومسؤولة، حنونة وقاسية، وذكية بامتياز، فهي تتنقل بصورة "بانورامية" من أخبار الحرب في لبنان، الى مفارقات السياسة الاسترالية، الى مآقي أهلنا في سيدني، الخ.. 
   ومن عناوينه تعرفه: الشعر الخنفشاري، انكزلي بأنكزلك، زمن الكلاب، بخور الخوري شلهوب أو "المونسنيور يا بطرس"، تعال ايها الحقد، وهلم جراً..
   وفضل العنداري انه تخطى مرحلة التلقي السلبي لمظاهر أوستراليا "الحضارية"، فأمعن في نقدها وتشريحها وكشف خفاياها، وهكذا اصبحت العين سلاحاً اصلاحياً وواسطة وعي والتزام. هذا الملتزم بآلام شعبه، في الوطن والمهجر، يقول: "أبحث عن موضوع لهذه الزاوية، أعثر على الكثير من مواضيع النقد الاجتماعي، التي تطال شعبنا ومهاجرينا، ولكن لا يجوز أن تكتب عن الفكاهة والخمريات، والجمال الصارخ، عندما تكون المناحة قائمة، والجثث تملأ الساحات" (2)، هو يكتب، اذن عن هموم الناس الحقيقية، فما هو رأيهم؟ وكيف تنظر اليه عيونهم؟.
ثانيا: العين المزدوجة:
   قد لا يهم عدد الذين قرأوا مقالات "كي لا ننسى" على صفحات "النهار"، فأنا من المؤمنين بالجودة وبالنخبة ـ الخميرة. وأذكر هنا قولاً لرئيس وزراء تونسي سابق هو الهادي نويرة: "الديمقراطية لا تعني حكم الأكثرية الجاهلة".
   ولكن يهمني صدى "كي لا ننسى" في نفوس أدباء المهجر، أو من يدّعون. هنا أرفع قبّعتي لشربل بعيني، الذي حضن هذه المقالات، بعفويته المعهودة، وعرّفني، أنا المضروب حديثاً "بزلطة" الغربة، على حياة بطرس العنداري، الصحافي المعتصم بحبل الصمت الشفهي، إلا اذا داعبك أو "ناقر" أم العيال.
   عين شربل بعيني رديفة لعين بطرس العنداري، شريكتها في النظر، والاعتبار، و"نشر الغسيل على السطوح".. والنظر بعين مزدوجة أخطر، والقضية أبعد من تصوير فوتوغرافي بكاميرا متريتي ساخر.
   لماذا يرى بطرس العنداري ويكتب؟
   لماذا لا "يطفش" كسائر الناس؟
   لماذا يدعمه "شربل" ويزكي مقصده؟
   وتكرّ الأسئلة، حتى نصل الى سؤال أساسي: لماذا يكتب الكتـّاب؟
   بصراحة، لا أملك جواباً واحداً ونهائياً على هذا السؤال ـ المعضلة. وأستعير هنا جملة من الشاعر الألماني الراحل "هلدرلن" الذي أوصى كل شاعر من بعده بقوله: كن كالكأس التي لا تتعب من الرنين.. الكتابة فعل تحدٍ للموت، ومقارعة للزمان، وتمرّد على الغربة والقهر والحزن والاحباط، وتجاوز لمحدودية العمر الى لا نهاية العطاء.
   هكذا قال شربل عن بطرس:
جايي لهالدنيي زياره
خلاّها تتحوّل عرس (3)
   باختصار، المشهد ينتقل من عين الى عين، وقد تكون عيني ثامنة أو رابعة، المهم "أن نعرف الحق، والحق يحررنا"، وأن نعتبر صدور كتاب هنا في أرض القحط الأدبي والادعاء الفارغ، عملاً بطولياً.
   وكم تمنيّت لو حملت المقالات المنتقاة تاريخ صدورها في "النهار"، اضاءة للنص، وشهادة للتاريخ، وأراني أحلم يمجموعة كاملة تضم هذه المقالات في مجلد واحد، فهل أدعو، من غير أن أدري "أبو زياد الى الاستشهاد؟
   أين أنتم يا اصحاب الملايين من أبناء جاليتنا الميامين؟ وأين دار النشر العربية في أوستراليا؟ أين.. أين؟
   رحمة الله على فلوسك يا شربل، وهنيئاً لنا بكتابك.
المراجع:
1) كي لا ننسى، مجموعة مقالات للصحافي بطرس العنداري، اختيار وتقديم الشاعر شربل بعيني. 104 صفحات من القطع الوسط، سيدني 1988.
2) كي لا ننسى، صفحة 39
3) كي لا ننسى، الغلاف
النهار، العدد 595، 16/6/1988
**