شربل بعيني: وفاء لأمومة لا تنضب

   شربل بعيني شاعر اختصر في شاعريته وفاءه للإنسان الأحب الى قلبه، الى أم افتقدها دون أن تغيب، وسافرت دون أن ترحل، وأغمضت العينين لتحبس في أنظارها فلذات الأكباد والأحفاد وكل الذين كانوا يرون في أم أنطوان "أم الجميع".
   والرحيل الباقي في أعماق شربل جرحاً ينزف حباً ووفاءً لأمومة لا تنضب، لم يكن هذه المرة "صباح الخير" يا أم أنطوان، أو قبلة يطبعها على يد ربّته، أو على وجنتين كانتا شمس الحياة، بل عبّر عنه الشاعر الجريح بتخصيص العدد الأخير من مجلته الشهرية الثقافية "ليلى" الى روح "بترونلة مارون بعيني أم الجميع".
   وقد تكون المجلة المكللة بسواد الحزن، تضم بين صفحاتها صورة الفرح للأم الغائبة الحاضرة، ومقالات للذين أوفوها فكتبوا عنها يوم رحيلها من قادة روحيين وأبناء وأهل قلم وأدباء وشعراء. ولكنك وأنت تقلّب الصفحات واحدة تلو الأخرى، تشعر أن الأمومة تتخطى الوجود، فهي الروحانية الأسمى، وهي العاطفة الأبعد، وهي الحضور الذي انتصر على الماورائيات وعلى الماديات، وكان أغلى من كل الثروات.. وتشعر أيضاً أن شربل مع اخوته موجود بين ضلوع كل كلمة، وفي كل صورة، وفي كل نبضة، وكأنه ولد من جديد ليلامس عبر الوريقات ـ الذكريات أماً عَبَد، وإنساناً باقياً في الأعماق أقوى من القدر، لأنها الحب والقصيدة.
   وإضافة الى الاقلام العديدة التي طرّزت تاريخ أم أنطوان بما تستحق، فقد نشر شربل في المجلة قصيدة "أمي" ويقول مطلعها:
مشتاق لعيونك أنا
مشتاق للضحكه
لشفاف عم تقطر هنا
من دون ما تحكي
يا نظرة الـ كلاّ أمل
محروق قلبي من الزعل
وفزعان تا إشكي!
عم يلعب بعمري القدر
وصوتك بدنيي هدر
لا تصرّخ وتِبْكي.
   وشربل كل ليلة، ما زال يزيد الطبخة في "قضرة" الفخار التي تركتها وراءها أم أنطوان، لعل الوالدة تطل فجأة على الدار، وتريد، كعادتها، أن تتناول العشاء مع فلذات الأكباد، ولكن هذه المرة زادها ليس من ماديات بل هو من خميرة انسانية تركتها وراءها "أم الجميع".
   وإذا كان شربل عنون العنوان الأخير بكلمة واحدة "شكراً"، فإلى الأمومة التي أعطتنا "أم الجميع" نقول ايضاً: شكراً.
النهار، العدد 1305، 11/11/1999
**